
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وآل بيته الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
حينما يشعر الإنسان بالإحباط يتجه إلى الماضي ليعوض ما فقده في الحاضر :
أيها الأخوة الكرام ، لا أعتقد أن هناك مصيبة تصيب الأمة كأن يهتز المثل الأعلى فيها ، الإمام أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ رأى غلاماً صغيراً أمامه حفرة ، فقال له: إياك يا غلام أن تسقط ، فقال هذا الغلام : بل إياك يا إمام أن تسقط ، إني إن سقطتُ سَقطتُ وحدي ، وإنك إن سقطتَ سقطََ معك العالم .
أيها الأخوة الكرام ، حينما يشعر الإنسان بالإحباط ، وحينما يفقد المثل الأعلى ، يتجه إلى الماضي ليعوض ما فقده في الحاضر ، هذه الخطبة عن عالم جليل من علماء السلف كيف تعامل مع القضايا العامة ، إنه
العز بن عبد
السلام .
هذا الإمام كان في غاية البطولة ، وهذه المواقف التي وقفها لولا أنها مسطرة في الكتب ، وتواتر نقلها ، لقلنا : إنها من نسخ الخيال ، لكنها مكتوبة ومتواترة ، والذين كتبوها علماء أجلاء ، عاصروه ، وعاشروه ، وعاشوا معه .
موقف العز بن عبد السلام من إنسان تعاون مع العدو ليمنع عن أخوته المؤمنين ما يمنع :
عندما كان
العز بن عبد
السلام في دمشق ، وكان الحاكم رجلاً يقال له : الملك الصالح إسماعيل ، من بني أيوب ، فولى
العز بن عبد
السلام خَطابة الجامع الأموي ، وبعد هذه الفترة قام هذا الملك بالتحالف مع أعداء المسلمين ، فحالفهم ، وسلم لهم بعض الحصون ، كقلعة الشقيف وصفد ، وبعض المدن ، من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر ، تعاون مع أعداء المسلمين ليقوى بهم فينتصر على المسلمين ، إنه مسلم يستعين بغير مسلم على قتال مسلم ! أرأيت إلى التاريخ كيف يعيد نفسه ، والحديث عن الجدار الفولاذي
، فلما رأى
العز بن عبد
السلام هذا الموقف الموالي لأعداء المسلمين لم يصبر ، فصعد المنبر ، وتكلم ، وأنكر ، وقالها صريحةً ، وقطع الدعاء ، وختم الخطبة بقوله : اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً ، تعز به وليك ، وتذل فيه عدوك ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر ، ثم نزل ، وعرف الأمير الملك الصالح أنه يريده ، فغضب عليه غضباً شديداً، وأمر بإبعاده عن الخطابة ، وسجنه ، وبعدما حصل الهرج والمرج ، واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ، ومنعه من الخطبة .
وخرج
العز بن عبد
السلام من دمشق مغضباً إلى جهة بيت المقدس ، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضاً ، والتقى بأمراء الأعداء من بيت المقدس ، فأرسل رجلاً من بطانته ، وقال له : اذهب إلى
العز بن عبد
السلام ، ولاطفه ، ولاينه بالكلام الحسن ، واطلب منه أن يأتي إلي ، ويعتذر مني ، ويعود إلى ما كان عليه ، فذهب الرجل إلى
العز بن عبد
السلام وقال له : ليس بينك وبين أن تعود إلى الخطابة وأعمالك وزيادة على ذلك ، إلا أن تأتـي وتُقبّل يد السلطان لا غير ، فضحك
العز بن عبد
السلام ، وقال : يا مسكين ، والله ما أرضى أن يقبل الملك يدي فضلاً عن أن أقبل يده ، يا قوم أنا في واد ، وأنتم في واد آخر ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به .
هذا موقف ، قال له : إذاً نسجنك ؟ قال : افعلوا ما بدا لكم ، فأخذوه ، وسجنوه في خيمة ، فكان يقرأ فيها القرآن ويتعبد ، هذا موقف وقفه
العز بن عبد
السلام من إنسان تعاون مع العدو ليمنع عن أخوته المؤمنين ما يمنع .
