{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
كثيرا ًما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن؛ لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد: إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد: عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان.
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}
نهاهم عن شيئين: عن خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم: تمييز الحق، وإظهار الحق.. فمن عمل بهذا من أهل العلم، فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم، ومن لبس الحق بالباطل، فلم يميز هذا من هذا، مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه، وأمر بإظهاره، فهو من دعاة جهنم؛ لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}
وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما، لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
..قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} فقال نبي الله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}؛ فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه، وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل، استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه، فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه، والرحمة لعباده، فلما قال لهم موسى ذلك، علموا أن ذلك صدق.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}
دلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله، إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل، فيتلقى أحكام ربه بالقبول، والانقياد، والتسليم
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..}
يستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة، من الصيام، والحج، والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات وآدابها، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية.
- {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ..}
بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا،
والمحن تمحص لا تهلك.
- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا}
في هذه الآية، دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا، وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته، وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له، وهو المحرم لتعلق حق الله، أو حق عباده به، وهو ضد الحلال.
- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان، من الربح والخسران..- { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} في هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل، وعدم القيام بالأسباب، فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي، ونحو ذلك.
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
المراد بالقرض الحسن: هو ما جمع أوصاف الحسن، من النية الصالحة، وسماحة النفس بالنفقة، ووقوعها في محلها، وأن لا يتبعها المنفق منا ولا أذى؛ ولا مبطلا ومنقصا.
في قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
فائدة لطيفة: وهو أن إخفاءها خير من إظهارها إذا أعطيت للفقير، فأما إذا صرفت في مشروع خيري، لم يكن في الآية ما يدل على فضيلة إخفائها، بل هنا قواعد الشرع تدل على مراعاة المصلحة، فربما كان الإظهار خيرا لحصول الأسوة والاقتداء، وتنشيط النفوس على أعمال الخير.- وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} في هذا: أن الصدقات يجتمع فيها الأمران: حصول الخير، وهو: كثرة الحسنات والثواب والأجر، ودفع الشر والبلاء الدنيوي والأخروي، بتكفير السيئات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} احتوت هذه الآيات، على إرشاد الباري عباده في معاملاتهم إلى حفظ حقوقهم بالطرق النافعة والإصلاحات التي لا يقترح العقلاء أعلى ولا أكمل منها، فإن فيها فوائد كثيرة: منها: جواز المعاملات في الديون..؛ لأن الله أخبر به عن المؤمنين، وما أخبر به عن المؤمنين، فإنه من مقتضيات الإيمان وقد أقرهم عليه الملك الديان.
أن الإضرار بالشهود والكتاب، فسوق بالإنسان، فإن الفسوق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته، وهو يزيد وينقص، ويتبعض، ولهذا لم يقل: "فأنتم فساق" أو فاسقون"، بل قال:{فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} فبقدر خروج العبد عن طاعة ربه، فإنه يحصل به من الفسوق، بحسب ذلك..(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}في هذه الحال يحتاج إلى التقوى والخوف من الله، وإلا فصاحب الحق مخاطر في حقه، ولهذا أمر الله في هذه الحال، من عليه الحق، أن يتقي الله ويؤدي أمانته.- : أن من ائتمنه معامله، فقد عمل معه معروفا عظيما، ورضي بدينه وأمانته، فيتأكد على من عليه الحق، أداء الأمانة من الجهتين: أداء لحق الله، وامتثالا لأمره، ووفاء بحق صاحبه، الذي رضي بأمانته، ووثق بهلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.- : تحريم كتم الشهادة، وأن كاتمها قد أثم قلبه، وذلك لأن كتمها- كالشهادة بالباطل والزور- فيها ضياع الحقوق، وفساد المعاملات، والإثم المتكرر في حقه، وحق من عليه الحق...
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}
أن تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم، وأوضح من هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي: علما تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل.
///////////////////////////////////