اختلاف العلماء حول المقصود بـ(التابوت) :
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) الآية 248سورة البقرة
اختلف العلماء حول هذا التابوت، التابوت ورد في قصة سيدنا موسى:
﴿أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾[ سورة طه: 39]
قالوا: هذا التابوت الذي نجَّى الله به موسى، كان محبوبٌ عند بني إسرائيل ثم ضاع منهم، بحثوا عنه فلم يجدوه، فكان من علامة أن هذا المَلك اختاره
الله عز وجل أن يأتيهم التابوت، وبعضهم قال: إن التابوت صندوق فيه التوراة،وفيه الآيات التي أنزلها الله على نبيه موسى عليه السلام، لكن المعنى
الثاني أوجه:﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾
هذا التوراة كما أنزله الله عز وجل، ليس المحرَّف، هذا التوراة إذا قرأه الإنسان وهو كلام الله عزوجل امتلأ قلبه سكينة واطمئناناً، فيه سكينة من ربكم..
﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾
أقوال هذا النبي، كيف أنه في ديننا هناك كتابٌ كريم هو القرآن الكريم، وهناك أحاديث شريفة، تبيان النبي عليه الصلاة والسلام لما في القرآن الكريم، كذلك هذا التابوت؛ الصندوق الذي كانت فيه ألواح سيدنا موسى وما فيها من آيات مُحْكَمات..
﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
علامة أن طالوت اختاره الله لكم ليقودكم في جهادٍ تستردون فيه أرضكم وكرامتكم.
الآية التالية جزءٌ من القصة وفيها أيضاً إشارة إلى حقيقة علمية :
قال تعالى:﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾بنهر فيه ماءٌ عذب..﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾
طبعاً، إضافة إلى أن هذه الآية جزءٌ من القصة، فيها إشارة إلى حقيقة علمية، وهي: أن الإنسان إذا بذل جهداً عالياً جداً جِداً في وقت حر شديد، ثم وصل إلى ماء بارد عذب كالفرات، وشرب حتى ارتوى، ربما يموت من لحظته، لأن حرارة الجسم في أعلى مستوى، فإذا أدخلت إلى جوفك ماءً بارداً فجأة، هناك
عصبٌ في المعدة اسمه العصب الحائر، هذا عصبٌ مربوطٌ بين المعدة والقلب، وهناك حالات كثيرة لوفاةٍ مفاجئة تمت بسبب شرب ماءٍ بارد جداً عقب جهدٍ كبير جداً، هذه حقيقة، فهناك مَن يموت فجأة، هؤلاء الذين ضلوا في الصحراء، إذا وصلوا إلى ماء بارد، وشربوا منه حتى ارتووا، ربما أصابتهم سكتة قلبية، هذه حقيقة، لكن هنا سياق الآيات..
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾امتحان آخر، مع أنه حقيقة طبيةٌ، امتحان..
﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾معنى ذلك أن الإنسان إذا بذل جهداً كبيراً جداًً، وكان في أعلى حالات
العطش، له أن يشرب كميةً قليلةً جداً، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
( مصوا الماء مصاً، ولا تعبوه عباً فإن الكباد من العب ))[ البيهقي في الشعب عن عائشة]فإذا شرب ما يملأ كفَّه، ومصه مصاً، لعل الخطر لا يقع.
الإنسان إذا عصى أو خالف يشعر بوهن في قواه :قال تعالى:﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ﴾الذي قاتلوا معه قليل مِن كثير، والذي امتنعوا عن شرب ماء النهر أيضاً قليل من كثير..﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾هنا الحقيقة، الحقيقة أن الإنسان إذا عصى أو إذا خالف يشعر بوهن في قواه، الآن لو إنسان ملتزم تماماً يقوم إلى الصلاة نشيطاً، أما إذا سمح لنفسه أن يفعل شيئاً لا يرضي الله، وأذَّن العشاء، يقوم إلى الصلاة متكاسلاً، صار حجاب بينه وبين الله، فهؤلاء الذين عصوا أمر قائدهم وشربوا من ماء النهر لما واجهوا العدو القوي..
﴿ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَاالْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
الفرق بين التفضيل والمحاباة :
هناك تفضيلٌ وهناك مُحاباةٌ، والفرق بين التفضيل والمحاباة، فمثلاً: إنسان عنده قارب أو يخت، ولهذا اليخت قائدٌ ماهر، لو أن ابنه الصغير والبحر هادئ، قال له: يا أبتِ دعني أقود هذا اليخت، أعطاه إياه، أعطاه إيّاه محاباةً، لأنه ابنه، ولأنه يحبه، ولكن لو هبَّت عاصفةٌ هوجاء، لمَن يعطي القيادة؟ للربان الخبير، حينما تعطى قيادة اليخت لربان خبير فهذا تفضيل بسبب حكمة بالغة، أما حينما يطلب منه ابنه أن يقود اليخت، هذه محاباة لحب الأب تجاه ابنه، فأنت حينما تؤثر شيئاً تعطيه ميزةً بدافع الحب والهوى فهذه محاباة، أما حينما تفضل إنساناً بميزة بدافع الحكمة فهذا تفضيل، إذاً: قد يفضَّل رسولٌ على رسول بسبب الحكمة، حكمة الله عز وجل، فـ..
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾
لكن التفضيل كما يقول علماء العقيدة لا يقتضي الأفضلية، سيدنا موسى كلمه الله تكليماً:
﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾[ سورة النساء: 164]
هل معنى أن الله كلم موسى تكليماً أنه أفضل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لا، التفضيل لا يقتضي الأفضلية، فلو إنسان أرسل ابنه إلى بلد بعيد، أعطاه مبلغاً من المال كبيراً يعينه على نفقات السفر، وابنه الذي في البيت لم يعطه هذا المبلغ، هل معنى ذلك أن هذا الذي أعطاه مبلغاً كبيراً أفضل من ابنه المقيم معه؟ لا، التفضيل لا يقتضي الأفضلية، ولكن هناك حكمةٌ بالغة اقتضت أن يفضل هذا الرسول على هذا الرسول.
كل نبي يكون مفضولاً تارة ومفَضَّلاً تارة أخرى والأفضلية لا تقتضي التفضيل :
قال تعالى:
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾
أما كلمة: بعضهم على بعض، لها معنى دقيقٌ جداً، ذلك أن هؤلاء الذين فضَّل الله بعضهم على بعض، أي أن بعض هؤلاء الرسل فضّلوا، وبعض هؤلاء الرسل مفضولون، في موقع آخر الذي كان مفضولاً صار مفَضَّلاً، معنى ذلك أن هذه العبارة في القرآن الكريم تعني أن واحداً من هؤلاء الرسل يكون مفضولاً تارةً، ومفضَّلاً تارةً أخرى.
في حياتنا اليومية، أب عنده ابن في الشهادة الثانوية، هو بحاجة ماسة إلى أستاذ رياضيات، هذا الأب يأتي إلى بيت هذا الأستاذ ويطلب منه أن يعطي ابنه بعض الدروس، ويسأله: هل ينجح ابني؟ فالأب بحاجة إلى هذا الأستاذ، هذا الأستاذ لو أنه مرض، يأتي إلى الطبيب، والد هذا التلميذ، ويقف أمامه وقفة متأدِّبة، يا ترى الذي أشعر به بحاجة إلى عملية أم يعالج بالحبوب؟ كما أن الأب الطبيب وقف أمام أستاذ الرياضيات متأدباً وسأله: يا ترى ابني هل ينجح؟ فكل واحد منهما مفضَّل تارة ومفضول تارةً أخرى، إذاً سخَّر بعضهم لبعض، فضَّلنا بعضهم على بعض، هذه العبارة في القرآن، تعني أن الواحد يكون مفضلاً ومفضولاً في وقتٍ واحد،
بعض هؤلاء كان مَلِكاً:
﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) ﴾[ سورة ص: 35 ]
بعض هؤلاء أوتي فهم لغة الطير كسيدنا سليمان، النبي عليه الصلاة والسلام كان فقيراً، فكل نبي له ظروفه، نبي أحيا الموتى بإذن الله، نبي شق البحر بإذن الله، نبي جاء بالقرآن الكريم بإذن الله، فكل نبي يكون مفضولاً تارة ومفَضَّلاً تارة أخرى، والأفضلية لا تقتضي التفضيل.