) ,
283 ,
لَا ,
مصورة ,
من ,
الأخت ,
البقرة ,
السَّمَاوَاتِ ,
الْأَرْضِ ,
النابلسي ,
تفسير ,
راتب ,
فِي ,
وَلَا ,
{لِلَّهِ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوتُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 284] أكبر مرضٍ يصيب الناس هو مرض الشرك وهو ضعف التوحيد :
من أين يأتي النفاق؟ من ضعف التوحيد، أن تشتكي لإنسان، وأن تنهار أمامه، وأن تبذل ماء وجهك أمامه، فهذا من ضعف التوحيد، لأنك إن آمنت بالله عزَّ وجل، الذي أعطاه يعطيك، والذي أكرمه يكرمك، والذي رفعه يرفعك، لذلك قال العلماء: " ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ".
كل هذا الكون مِلْكٌ لله خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
هذا هو الدين، إن آمنت أنه لا يقع شيء، ولا يتحرَّك شيء، ولا يقف شيء إلا بإذن الله عزَّ وجل، هذا الإيمان ينعكس على سلوكك استقامةً على أمر الله، وجُرْأَةً في الحق، وينعكس عليك عزةً وكرامةً ووضوحاً، فأكبر مرضٍ يصيب الناس هو مرض الشرك، وهو ضعف التوحيد، أي أنه يرى أن هناك أقوياء لا بد أن تنصاع لأمرهم وإلا دمَّروك، لا بد أن ترضيهم ولو على حساب دينك، هذا هو مرض المسلمين، ضعف توحيدهم أوقعهم في المعاصي والذنوب، وأوقعهم في الشرك والشُبُهة.
لماذا خَلَقَنا؟ خلقنا ليسعدنا في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، خلقنا لمهمةٍ، خلقنا لتأدية رسالة:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
ضعف التوحيد وضعف الإيمان يملأ القلب شهوةً مُحَرَّمةً :
لذلك هو في الدنيا يربيِّنا، فإذا استقمنا على أمره أكرمنا، وإذا انحرفنا عن الصراط المستقيم أدَّبنا، فالإنسان حينما يبتعد عن الله يؤثر شهوته على طاعة ربه، وحينما يؤثر شهوته لا بد من أن يعتدي، لأنك لو تحرَّكت وفق منهج الله لا يمكن أن تعتدي على أحد، أما إذا اندفعت بدافع الشهوة من دون منهج الله عزَّ وجل فلا بد أن تعتدي على أموال الآخرين، وعلى نسائهم، وعلى أعراضهم، فلذلك ضعف التوحيد وضعف الإيمان يملأ القلب شهوةً مُحَرَّمةً، هذه إذا خرجت وانقلبت إلى واقع انتشر مرض لا بد من معالجة الإنسان منه.
من بعض تفسيرات هذه الآية: أن النفس إذا انطوت على مرض، المرض يعني شهوةً محرمة، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
المعنى المخالف أو المعنى العكسي أن الذي يتبع هوى نفسه وفق منهج الله عزَّ وجل لا شيء عليه، أعطى كل ذي حقٍ حقه، اشتهى المرأة فتزوَّج، اشتهى المال فكسب كسباً مشروعاً، إذاً الإنسان حينما يُعْرِض عن الله عزَّ وجل يتبع هواه، ومع إتباع الهوى ظلمٌ وعدوان، فلا بد أن يؤدِّبه الله، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾
أخواننا الكرام... أمراض الجسم تنتهي عند الموت، ولو كانت عُضالة، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت، فلذلك الإنسان أولى له ألف مرة أن يعالجه الله ليموت طاهراً نقياً من أن يَدَعَه الله وشأنه، حتى يستحق دخول النار، ورد في بعض الأحاديث أن الله عزَّ وجل يقـول:
((وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئةٍ كان عملها سُقماً في جسمه، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبةً في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه))
الإنسان حينما ينحرف عن منهج الله تتولَّد عنده الشهوات المُحَرَّمة :
معنى ذلك أن الإنسان مخلوق للجنة، والجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، معنى ذلك أن الحياة الكريمة التي خُلِقْتَ من أجلها ليست في هذه الدنيا، هذه " الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا من عطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي".
إذاً نحن في مرحلةٍ إعدادية لحياةٍ أبدية، سمَّى الله الحياة هذه حياةً دنيا، وسمى الحياة التي أعدها لنا في الدار الآخرة حياةً عُليا، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمن هذه الحياة العليا ـ الدار الآخرة، الجنة التي يبقى فيها الإنسان إلى أبد الآبدين ـ ثمنها أن تأتي إلى الدنيا، وأن تضبط شهواتك وفق منهج الله.
أيها الأخوة.. هذا الثمن بمقدور أي إنسان أن يدفعه، فما مِن شهوةٍ أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، ليس في الإسلام حرمان، فالإنسان خُلِقَ في الدنيا من أجل جنة عرضها السماوات والأرض، ثمن هذه الجنة أن يستقيم على أمر الله، أي أن يضبط أهواءه، ونزواته، وشهوته وفق منهج الله، فإذا حاد عن منهج الله قليلاً تولَّد في نفسه أمراض، أمراضٌ نفسيَّة تحتاج إلى معالجة؛ البخل مرض، العُجب مرض، الكِبر مرض، حُب الذات مرض، الاستعلاء مرض، الحقد مرض، الرغبة في العلو في الأرض مرض، حينما نبتعد عن الله قليلاً تتولد الأمراض النفسية، الإنسان شهوةٌ مندفعة، فالإنسان حينما ينحرف عن منهج الله تتولَّد هذه الشهوات المُحَرَّمة. الآن..
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾
﴿ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
هناك طريقان للشفاء طريقٌ سليم وطريقٌ مُتْعِب :
الإنسان يعاني مرضاً نفسيّاً، عنده حب للدنيا ولو على حساب دينه، عنده رغبةٌ أن يأخذ ما ليس له، عنده رغبةٌ أن يغتصب بيتاً ليس له، عنده رغبةٌ أن يعتدي على حقوق الآخرين، هذه كلها أمراض، فإن أظهرها الإنسان أو أخفاها فلا بد أن يحاسب عليها، لأن الله رب العالمين..
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
أمام طبيب قد تخفي أعراض مرض خطير، والطبيب لا يعلم، أما لو أن الأب هو الطبيب فيرى أن هناك علامات مرض، فلا يسمح لابنه أن يكذب عليه، لا بد أن يعالجه، لأن الأب الطبيب يتمتَّع برحمةٍ وعلمٍ في آن واحد، رحمة الأب وعلم الطبيب..
(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
أيها الأخوة... هناك طريقان للشفاء: طريقٌ سليم، وطريقٌ مُتْعِب، إنسان اشتهى شيئاً حراماً؛ فأقبل على الله، واتصل بالله، واستغفر الله، حتى غفر الله له هذه الشهوة المحرَّمة شفاه منها، طهَّر قلبه منها عن طريق الصلاة، الصلاة تطهر القلب من أدرانه.. الصلاة طَهور، والصلاة نور، والصلاة حَبور، والصلاة ذكر، والصلاة مناجاة، والصلاة علم وعقل.. فإن انتبه إلى نفسه، وشعر أن في نفسه مرضاً خطيراً لا بد من أن يشفى، فأقبل على الدين، اتصل بالله عزَّ وجل، دفع الصدقات، تلا كتاب الله، التحق بمسجد يظن أن هذا المسجد على حق، وأقبل على الله، فالله عزَّ وجل شفاه من دون مصيبة.
أو يكابر بالمحسوس، يبقى على خطئه، يبقى مصراً على ذنبه، ما الذي يحصل؟ يحتاج إلى تأديب الآن.
سنن الله في خلقه :
كلكم يعلم أيها الأخوة أن الله جل جلاله له في خلقه سُنَن:
1 ـ الهدى البياني :
الله عزَّ وجل يبدأ بالهُدى البياني، يبيِّن؛ من خلال القُرآن، من خلال سنة النبي العدنان، من خلال الدُعاة، من خلال الحوادث يبين، الهدى البياني، الدعوة البيانية، أنت معافى، صحيح، سليم، موفور الكرامة، يسمعك الله الحق، أرقى إنسان هو الذي يستجيب لله بدعوته البيانية.
2 ـ التأديب التربوي :
إن لم يستجب لا بد من مرحلةٍ صعبةٍ وهي التأديب التربوي؛ يؤدِّبه بنقصٍ في ماله، أو نقصٍ في صحته، أو نقصٍ في أهله، أو عدوٍ مخيف، أو شبح مصيبة، الله عزَّ وجل عنده مصائب لا تُعَدًّ ولا تحصى؛ تبدأ من الهم، وتنتهي بأصعب الأمر، فالمرحلة الثانية التأديب التربوي.
3 ـ الإكرام الاستدراجي :
المرحلة الثالثة إن لم يتب، الإكرام الاستدراجي كما هو الحال عند أهل الدنيا الذين شردوا عن الله عزَّ وجل، دنيا عريضة، أموالٌ وفيرة، شهواتٌ مستعرة، يفعلون كل شيء وهم أقوياء، متغطرسون، متسلِّطون، هذا اسمه الإكرام الاستدراجي، وبعدها القصم.
4 ـ القصم :
أنت بين الهدى البياني، والتأديب التربوي، والإكرام الاستدراجي، ثم القصم، هنيئاً لمن استجاب لله بدعوته البيانية، كلام ربنا واضح وضوح الشمس، كلام النبي عليه الصلاة والسلام واضح وضوح الشمس، هناك دعاةٌ إلى الله صادقون، أصغِ إلى قولهم، استمع إلى دعوتهم، استجب، طبِّق..
﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
لا تستجب..
﴿ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾
المصائب أربعة أنواع :
قال تعالى:
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
يا رسول الله عظني ولا تطل. قال: قل آمنت بالله ثم استقم. فقال هذا الأعرابي: أريد أخف من ذلك. قال: إذاً فاستعد للبلاء.
إما أن تستقيم على أمر الله، إما أن تستجيب له فتسلم من مصائب الدنيا... طبعاً يبقى هناك مصائب رفع درجات، مصائب امتحان، أما مصائب العقاب نجوت منها، المصائب أربعة أنواع: مصيبة قصمٍ، أو مصيبة ردعٍ، وهاتان المصيبتان للكفار، مصيبة دفعٍ، ومصيبة رفعٍ، وهاتان المصيبتان للمؤمنين، ثم هناك مصائب الأنبياء وهي مصائب كشفٍ، أي ينطوي على كمال لا يظهر إلا بحالةٍ صعبة، فبين القصم والردع، وبين الدفع والرفع، وبين الكشف، هذه المصائب، فالإنسان إذا استجاب لله عزَّ وجل، وانتبه إلى أمراضه، واستغفر الله منها، وأقبل على الله، وطهر الله قلبه من هذه الأمراض، أي يجب أن نؤمن.
هناك مقولة عند العوام يقول لك: " فالج لا تعالج "، إذا لم يكن ثمة أمل الإنسان يتطور فلا جدوى من بعثة الأنبياء، هذا كلام غير صحيح، قد يكون الإنسان حاقداً، وقد يكون لئيماً، وقد يكون مستعلياً، ومتكبراً، ومحباً لذاته، فإذا اصطلح مع الله وأقبل عليه طهرت نفسه فصار كريماً، وصار متواضعاً، وصار حليماً، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خُلقاً حسناً، فالصلاة شفاء، الصلاة طهور، كما قال عليه الصلاة والسلام تطهر النفس من أدرانها، لا يمكن أن يكون المصلي حَقوداً، ولا أن يكون المصلي لئيماً، ولا بخيلاً، ولا شحيحاً، ولا جباناً، ولا منافقاً، الصلاة تطهِّر الإنسان، تسمو به، إذاً العبرة أن نسمو إلى الله، أن تصفو نفوسنا من كل درن.
موسوعة النابلسى للعلوم الاسلامية